ضمن الدائرة الضيقة للعائلة الحاكمة في أبوظبي، يملك محامي عقارات يبلغ من العمر 83 عاماً نفوذاً فريداً من نوعه. وتجلّت ثمار عمله الداعم لطموحات الإمارة في مجالات الذكاء الاصطناعي والصفقات الخارجية بشكل واضح، عندما استضاف الإماراتيون أحد شركائه القدامى وهو الرئيس الأميركي دونالد ترمب.
يُعدّ مارتي إيدلمان حالة نادرة في العاصمة الخليجية، لكونه شخصية من خارج وسط النخبة الذي يضم كبار أفراد عائلة آل نهيان الحاكمة. وبفضل قدرته على التحرك بسلاسة بين غرف مجالس الإدارة الدولية، والمجالس التقليدية الإماراتية، نال ابن مدينة نيويورك لقب “رجل أبوظبي في مانهاتن”.
صفقات ضخمة
بصفته مستشاراً رفيع المستوى للإمارات، كان إيدلمان في قلب عملية تحول الدولة من اقتصاد بترولي إلى مركز للأعمال والتكنولوجيا والثقافة. فهو ساهم في توجيه صفقة أبوظبي التاريخية لشراء نادي “مانشستر سيتي” لكرة القدم خلال 2008، فضلاً عن دوره في سعي الإمارة مؤخراً للحصول على رقائق شركة “إنفيديا” المتطورة.
تظهر دلائل على تأثير المحامي بقصة إنشاء فرع “جامعة نيويورك” في أبوظبي، عام 2010. حيث وصف خلدون المبارك، الرئيس التنفيذي لصندوق “مبادلة للاستثمار” الذي يدير أصولاً تُقدّر بـ330 مليار دولار، المفاوضات مع الجامعة بأنها “طويلة وشاقة” قبل الوصول إلى لحظة الإعلان عن افتتاح الفرع المحلي.
وكشف المبارك أن “مارتي إيدلمان عمل بوصفه جسراً بين الطرفين”.
العلاقات السياسية
في أواخر ولاية الرئيس الأميركي السابق جو بايدن، استخدم إيدلمان مهاراته الدبلوماسية لدعم محادثات حساسة بين مسؤولين أميركيين وشركة “جي 42” (G42)، وهي شركة الذكاء الاصطناعي التي تتخذ من أبوظبي مقراً لها ويشرف عليها مستشار الأمن الوطني الشيخ طحنون بن زايد آل نهيان. فعلى مدى سنوات، بنى المحامي علاقات رفيعة المستوى في أوساط السلطة داخل الحزب الديمقراطي، بدءاً من عائلة كينيدي إلى آل كلينتون وجورج سوروس.
ومع انتخاب ترمب رئيساً للولايات المتحدة، عاد وجه آخر مألوف بالنسبة له إلى البيت الأبيض. إذ تجمع إيدلمان علاقة صداقة مع كل من ترمب وستيف ويتكوف، المبعوث الخاص للولايات المتحدة إلى الشرق الأوسط والمستشار الموثوق للرئيس، تعود إلى فترة انتعاش سوق العقارات في مدينة نيويورك خلال الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي. وساهمت هذه الصداقة في تعزيز دوره كوسيط محوري، في الوقت الذي تسعى فيه الدولة الخليجية إلى تحقيق توازن بين طموحها في الحصول على التكنولوجيا الأميركية المتقدمة واستراتيجيتها الدبلوماسية القائمة على “الصداقة مع الجميع”.
دور بارز في أبوظبي
يتجلى نفوذ إيدلمان في مناصبه كمستشار أو كعضو مجلس إدارة في العديد من المؤسسات البارزة في أبوظبي، من “مبادلة” إلى “جي42” ونادي “مانشستر سيتي” و”رويال غروب”، وهي كيانات استثمارات خاصة بارزة يرأسها الشيخ طحنون. تشمل القائمة أيضاً شركة “إم جي إكس” (MGX)، التي تسهم في تمويل مبادرة ترمب للذكاء الاصطناعي بحجم 100 مليار دولار، وشركة “غلوبال فاوندريز”، وهي شركة تصنيع أشباه موصلات كبرى مملوكة لـ”مبادلة”.
صرح ويتكوف، مبعوث ترمب الخاص والذي يعرف إيدلمان منذ 3 عقود، في مقابلة: “ما يميز مارتي هو أنه محل ثقة لدى كلا الجانبين، ويتقن مراعاة الثقافات المختلفة. لا يُنظر إليه كشخص أيديولوجي، ويستند منهجه إلى إيجاد الحلول، ودائماً ما يسعى لأخذ وجهات نظر الجميع في الاعتبار”.
تستند هذه القصة إلى مقابلات مع أكثر من عشرين شخصاً مطلعين على مسيرة إيدلمان المهنية وعمله الاستشاري مع دولة الإمارات. تحدث معظمهم مشترطين عدم الإفصاح عن هوياتهم نظراً لخصوصية المعلومات.
لم يستجب إيدلمان لطلبات التعليق على الموضوع.
رجل أبوظبي في مانهاتن
وصل المحامي لأول مرة إلى المنطقة مطلع العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، برفقة الجنرال الأميركي تومي فرانكس، الذي أدخله لدائرة العائلة الحاكمة في أبوظبي.
وما لبثت أن نشأت علاقة مميزة بينه وبين الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، الرئيس الحالي لدولة الإمارات العربية المتحدة، وشقيقه الشيخ طحنون بن زايد الذي يشرف على إمبراطورية استثمارية يُقدّر حجمها بـ1.5 تريليون دولار. بعد فترة وجيزة، استعان به الإماراتيون كمستشار للحكومة ولعائلة آل نهيان، لتتعمق العلاقة بين الجانبين على مدى عقدين.
إيدلمان، الذي يبدأ معظم أيامه في الساعة 4:30 صباحاً بجولة من المكالمات الهاتفية، ثم تمارين رياضية، يُعدّ من نوادر المستشارين الغربيين الذين يحظون بثقة كبار المسؤولين الإماراتيين.
تشهد أبوظبي حالياً تدفقاً متزايداً للشركات من مختلف أنحاء العالم، في ظل امتلاكها نحو 1.7 تريليون دولار من الأصول السيادية، إلى جانب 6% من احتياطيات النفط العالمية. لكن حتى كبار المسؤولين التنفيذيين يجدون أنفسهم مضطرين لعبور متاهة من الوسطاء قبل الوصول إلى صناع القرار الماليين في الإمارة. أما إيدلمان فقد نسج علاقاته قبل هذا التدافع بوقت طويل.
مُنح هذا الرجل القادم من نيويورك جواز سفر إماراتياً، وهو شرف نادر لا يُمنح إلا لقلة من الأجانب، ويُعدّ مؤشراً على ثقة شخصية عميقة من أعلى مستويات القيادة. عندما تزوج من مصممة الأزياء نورما كمالي قبل أعوام، أُقيمت له بالمناسبة مأدبة احتفالية في أبوظبي. يعمل إيدلمان منذ أمد بعيد في شركة “بول هاستينغز” (Paul Hastings)، التي افتتحت مؤخراً مكتباً في العاصمة الإماراتية، في إطار سعيها للاستفادة من توجه المدينة نحو قطاعات مثل الذكاء الاصطناعي.
الصلة بعائلة كينيدي
لم يكن طريق إيدلمان إلى عالم ترمب والعائلة الحاكمة في أبوظبي تقليدياً.
نشأ ابن المهاجر الروسي والأم اليتيمة، في أسرة ليبرالية تعتز بالتزامها بالعدالة الاجتماعية بمقاطعة ويستشستر، حيث كانت مناقشات الحراك من أجل الحقوق المدنية والسياسات الشيوعية تدور على مائدة العشاء.
أثناء دراسته في جامعة “برينستون” أوائل ستينيات القرن الماضي، كان إيدلمان لاعب رياضة “لاكروس”، وشارك في مشهد لموسيقى “روك آند رول” على الساحل الشرقي، حيث عزف على الطبول إلى جانب أساطير مثل تشاك بيري وفاتس دومينو. ومنحته فترة تدريب صيفي ككاتب خُطب للنائب العام الأميركي السابق روبرت إف. كينيدي، فرصة غير متوقعة للتعرف على إحدى أبرز الأسر السياسية في الولايات المتحدة.
وبعد تخرجه، سار على خطى كثيرين في عائلته، فالتحق بكلية الحقوق في “جامعة كولومبيا”. بعدها، ومع تصاعد حرب فيتنام، تم استدعاؤه للخدمة العسكرية، حيث خدم لمدة 3 سنوات.
عند عودته إلى نيويورك، انطلق مباشرة إلى مجال القانون. وفي أول يوم عمل له، أُرسل للقاء عميل بارز في هارلم، وكان من بين الحضور جاكي روبنسون، وهو أول رجل من أصول أفريقية يلعب في دوري البيسبول الأميركي للمحترفين. دار بينهما حوار حول مشروع إسكان مدعوم، وسرعان ما طلب روبنسون بعدها من إيدلمان أن يكون محاميه.
استغل إيدلمان تلك الفرصة ليوسع دوره بمسرح العقارات في نيويورك، ليصبح مستشاراً أساسياً في صفقات بارزة، وصاحب حضور دائم في عالم المال والنفوذ في مانهاتن.
وقال ويتكوف واصفاً عمل إيدلمان في المدينة خلال السنوات التي كان فيها ترمب يبرم صفقات ضخمة: “عرف الرئيس ترمب لفترة طويلة على مر السنوات. كان مارتي في قمة السلسلة بالمجال القانوني للعقارات في نيويورك في ذلك الوقت”.
محامي ناطحات السحاب
في عام 2002، قادت دعوة بالصدفة إيدلمان إلى أبوظبي.
ومن خلال عمله الخيري في قضايا المحاربين القدامى، تعرّف على الجنرال فرانكس، الذي قاد العمليات العسكرية الأميركية في الشرق الأوسط مطلع الألفية الجديدة.
بعد هجمات 11 سبتمبر بفترة وجيزة، نظم إيدلمان زيارة ترفيهية للقوات الأميركية، اصطحب خلالها مجموعة من نجوم هوليوود وموسيقيين، بينهم روبرت دي نيرو، وكيد روك، وواين نيوتن. وفي ذات الفترة تقريباً، سأله فرانكس إن كان يرغب في مرافقته بجولة منظمة للقاء قادة الخليج.
إيدلمان، وهو يهودي، كان متشككاً في البداية بشأن الطريقة التي قد يُستقبل بها، لكنه وافق في النهاية. وخلال أسبوع واحد فقط، انتقل من علاقات شبه معدومة في المنطقة إلى الوصول المباشر لبعض من أكثر صانعي القرار نفوذاً في الشرق الأوسط.
وقد أُعجب به الإماراتيون بشكل خاص، ورأوا القيمة التي يمكن أن يقدمها من أطلقوا عليه لقب “طبيب الصفقات” و”محامي ناطحات السحاب”، في مجموعة قضايا من الدبلوماسية إلى الصفقات، ومن القوة الناعمة إلى السياسة. أصبح مستشاراً موثوقاً لعائلة آل نهيان حيث مثّل الوجه الأميركي داخل غرف الاجتماعات، للمساعدة في تهدئة المخاوف وحل المشكلات المتعلقة بالاستثمارات العابرة للحدود.
شمل ذلك صفقة نادي “مانشستر سيتي”، حين كان إيدلمان في قلب الحدث، يعمل بشكل وثيق مع الشيخ منصور بن زايد آل نهيان والرئيس التنفيذي لـ”مبادلة” خلدون المبارك والسفير يوسف العتيبة. ولم يمضِ وقت طويل حتى برز إيدلمان كـ”نظير غير رسمي” للعتيبة في واشنطن، ولاعباً أساسياً في تعزيز العلاقات الأميركية الإماراتية.
تغيير جذري في مسيرته المهنية
في حلقة “بودكاست” مؤخراً، تحدّث إيدلمان عن لقاءاته الأولى بعدد من قيادات الإمارات، واصفاً هذه اللقاءات بأنها من أكثر اللحظات أهميةً في مسيرته المهنية، ومهدت الطريق لدوره الاستشاري الحالي الذي يقضي فيه نحو نصف وقته بالعمل لصالح حكومة وقيادة أبوظبي حول العالم.
وقال: “غيّر ذلك حياتي بشكل جذري. لقد فعلت كل ما كنت أحلم به، ثم فعلت 4 آلاف أمر آخر لم يكن ليخطر ببالي يوماً فعلها”.