أدخلت سياسات الرئيس الأميركي دونالد ترمب وأوامره التنفيذية، العالم في حالة من الفوضى ورسخت مناخاً من عدم اليقين الذي بات يخيم على اقتصادات العالم. ولكن زيارته إلى دول الخليج، قد تقدم بعض الإجابات على أسئلة رئيسية مرتبطة بسياسته بقيت عالقة وغير واضحة، وضغطت على اقتصادات العالم.
الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا
منذ اليوم الأول لترمب، أعلن عن أوامر تنفيذية تهدف إلى تعزيز صناعة الذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة، متعهداً بترسيخ الريادة الأميركية في هذا القطاع.
ورغم فرضه قيوداً جديدة على الرقائق المصدرة إلى الصين، إلا أن ترمب يخطط لتعديلات جوهرية في السياسة الأميركية للذكاء الاصطناعي، وهي خطط لا تزال غير واضحة، ولكن ما تسرب منها قد يصب في مصلحة دول الخليج.
يرى نيك بوكرين مؤسس شركة “ذا كوين بيرو” المتخصصة بمجال الأصول الرقمية والمحلل السابق في “غولدمان ساكس”، أن دبلوماسية ترمب “تركز على الصفقات”، وهو ما يتناسب مع طموحات الخليج في أن يصبح مركزاً عالمياً للذكاء الاصطناعي.
ونوه في حديث لـ”الشرق” بأن الزيارة قد تسرّع التعاون في هذا المجال من خلال تذليل العقبات أمام صادرات التكنولوجيا الأميركية، وتشجيع الشراكات مع القطاع الخاص، مضيفاً أن ترمب يدعم توسع القطاع عالمياً مع التركيز على بقاء “الشركات الأميركية في موقع الريادة”.
في الأسبوع الأخير من ولاية الرئيس السابق، أعلن جو بايدن عن “قاعدة نشر الذكاء الاصطناعي”، والتي فرضت قيوداً على صادرات الرقائق الأميركية إلى الكثير من الدول من بينها الخليج.
تحاول الإدارة الأميركية الجديدة اتخاذ نهج مختلف وأكثر واقعية في التعامل مع هذا الأمر. إذ تدرس عدم الالتزام بهذه القاعدة، وتوسيع تصدير الرقائق الأميركية إلى الدول التي لم تقم بتحويلها إلى الصين.
وحتى الآن، لم تقدم الإدارة الجديدة أي تفاصيل بشأن هذه الخطط، ولكن أي اتفاق مع دول الخليج في هذا القطاع، قد يعطي لمحة عن أفكار الإدارة الأميركية في التعامل مع هذا الملف.
رسائل شديدة الأهمية لوول ستريت
ترمب لن يكون وحيداً في رحلته إلى المنطقة، إذ سيرافقه رؤساء شركات كبرى مثل لاري فينك، الرئيس التنفيذي لشركة “بلاك روك”، وجين فريزر، الرئيسة التنفيذية في “سيتي غروب” وستيف شوارتزمان من “بلاكستون”، وجيني جونسون من “فرانكلين تمبلتون”، وروث بورات من “ألفابت”.
ومن المقرر أن يتحدثوا، بالإضافة إلى شخصيات رئيسية أخرى على غرار إيلون ماسك، في منتدى الاستثمار السعودي-الأميركي المزمع عقده في 13 مايو. كما سيشارك في مؤتمر الاستثمار الرئيس التنفيذي لشركة “آي بي إم”، أروند كريشنا، ورئيس شركة “كوالكوم” كريستيانو آمون.
بوكرين رأى في الوفد المرافق “رسالة” أميركية أخرى شديدة الأهمية، معتبراً أن وصولهم إلى السعودية مع ترمب والمشاركة في المؤتمر، يمثل “ضوءاً أخضر لوول ستريت ووادي السيليكون للتعامل مع المنطقة بجدية أكبر، وهو ما يمثل مكسباً كبيراً لدول مثل السعودية والإمارات، اللتين تحرصان على التعاون في تطوير التكنولوجيا بدلاً من الاكتفاء بدور المستثمر”.
علامات استفهام بشأن سوق النفط
يُعتبر ملف الذكاء الاصطناعي الأقل تعقيداً في سياسات ترمب، إذ سبق وأبدى حماسة لخفض قيود التصدير إلى دول الخليج وغيرها. إلا أن الأسئلة العالقة تمتد إلى ما هو أبعد من ذلك. ولعل أسعار النفط من أبرز الملفات التي تدور بشأنها علامات استفهام.
منذ حملته الانتخابية، يريد ترمب خفض أسعار الطاقة في الولايات المتحدة نظراً لمساهمتها الكبيرة في رفع مستويات التضخم، كما سبق وطلب من “أوبك+” المساعدة في خفض الأسعار.
في الوقت ذاته، يواصل فرض سياسة “الضغط القصوى” على إيران، ويضيّق الخناق على فنزويلا، في حين تهدد رسومه الجمركية بخفض النمو العالمي، وبالتالي الطلب على الطاقة.
يرى ألكسندر توميك مساعد العميد للاستراتيجية والابتكار والتكنولوجيا في “كلية وودز للدراسات المتقدمة” في جامعة “بوسطن”، أن هذا الملف هو الأعقد.
واعتبر في تصريح لـ”الشرق” أن قضية أسعار النفط ليست “بسيطة، أو خلافية، كما قد يبدو”، مضيفاً: “صحيح أن السعودية تفضل أسعاراً أعلى للنفط، ولكن إلى حد معين فقط”.
وأوضح أن ارتفاع الأسعار بشكل كبير سيؤدي إلى تسارع عملية استبدال النفط، وسيكون لذلك آثار سلبية طويلة المدى، “أكثر خطورة من أي تقلب في الأسعار على المدى القصير”.
تضرر أميركي من سياسات ترمب
رغم تأكيدها على أنها قادرة على تحمل أسعار منخفضة لوقت طويل، فإن السعودية ليست المتأثرة الوحيدة بأسعار النفط المنخفضة.
تواجه الشركات النفطية في الولايات المتحدة تحديات في ظل أسعار نفط تتراوح بين 50 و60 دولاراً، ما يلقي بثقله على الإنتاج، بالتالي على الوظائف الأميركية في هذا القطاع الذي بنى ترمب حملته الانتخابية على دعمه.
يشير أسامة رزفي محلل اقتصاد وطاقة في شركة “برايمري فيجن” إلى أن أسعار النفط المنخفضة بدأت تؤثر بشكل واضح على عمليات الإنتاج في الولايات المتحدة.
تتبع الشركة إمدادات النفط الأميركي من خلال مؤشر (Frac Job Count) الذي يقيس عمليات الحفر المنجزة. ويشير رزفي في تصريح لـ”الشرق”، إلى أن المؤشر ظل مستقراً على أساس سنوي حتى مع انخفاض عدد منصات الحفر في الولايات المتحدة.
ولكنه تراجع مؤخراً بنحو 7 نقاط مع انخفاض الأسعار، ليصبح منخفضاً بنحو 28 نقطة على أساس سنوي، ما يشير إلى أن الإنتاج قد يبدأ بالتباطؤ إذا بقيت أسعار النفط منخفضة.
هذه العوامل قد تدل على “إمكانية التفاوض على نطاق سعري” للنفط، وفقاً لما قاله كريستيان كوتس أولريشسن وهو زميل متخصص في شؤون الشرق الأوسط في “معهد بيكر”.
وأضاف في تصريحات لـ”الشرق”، أن المنتجين الأميركيين سيفقدون قدرتهم التنافسية إذا انخفض السعر بشكل كبير عن نطاق 50-60 دولاراً للبرميل. وتابع: “إذا أُريد لخطاب ترمب حول تعزيز الإنتاج الأميركي أن يصبح حقيقة، فسيكون هناك مجال للتفاوض حول مستوى سعري يناسب الطرفين”.
من هذا المنطلق، قد تمنح أي اتفاقات أو تفاهمات بشأن الطاقة بين دول الخليج والولايات المتحدة، وضوحاً في الصورة لأسواق النفط التي ضغطت عليها سياسات ترمب الجمركية مؤخراً.
الاستثمارات الأجنبية ضمن إطار مشترك
أعلنت السعودية نيتها رفع حجم استثماراتها في الولايات المتحدة بنحو 600 مليار دولار خلال 4 سنوات، مرشحة للارتفاع في حال سنحت الفرص. من جهتها، تعهدت الإمارات باستثمار 1.4 تريليون دولار على مدار 10 سنوات في الولايات المتحدة. كما يُتوقع أن يتم الإعلان عن صفقات بتريليون دولار خلال زيارة ترمب إلى المنطقة.
ونظراً إلى أن اقتصادات دول الخليج لا تزال تعتمد على النفط، وإن كان بوتيرة أقل كثيراً عن السابق، فإن السؤال الذي يُطرح هو: كيف ستتمكن دول الخليج من تمويل الاستثمارات الخارجية والمحلية في ظل أسعار نفط منخفضة؟
أولريشسن اعتبر أن الزيارة قد تسفر عن “إطار عمل مرضٍ للطرفين” في ما يتعلق بالاستثمارات، خصوصاً إذا كانت التعهدات الاستثمارية “موزعة على مدار السنوات الأربع لرئاسة ترمب، وضمن إطار قابل للتنفيذ”.
وأعرب عن اعتقاده أن هذا السؤال سيطرح خلال المحادثات بين الطرفين، مضيفاً: “من المرجح أن تتحقق هذه الوعود إذا ارتفعت عائدات أسعار النفط”، معتبراً أن وفاء ترمب بوعده بشأن زيادة الإنتاج الأميركي، “يشترط إدراكه أن هناك حاجة إلى توازن في الأسعار”.
“الكريبتو” سيف ذو حدين
“الكريبتو” والعملات المشفرة أيضاً من السياسات التي أبدى ترمب اهتماماً كبيراً بها، متعهداً بجعل الولايات المتحدة “عاصمة العملات المشفرة في العالم”.
رغم ذلك، إلا أن سياساته لا تزال غير واضحة المعالم، في وقت أن بعض الإجراءات التي أعلن عنها، مثل إنشاء احتياطي استراتيجي لـ”بتكوين”، خيبت آمال المتحمسين للقطاع.
قد يبحث المستثمرون عن إشارات بشأن أفكار الإدارة الأميركية بشأن تطوير القطاع، في وقت أن بعض الدول الخليجية وخصوصاً الإمارات، تخطط لتعزيز وتنمية هذه الصناعة.
رأت سيلفينا موشيني مؤسسة شركة “يونيكوين” المتخصصة بالعملات المشفرة، أن سياسات ترمب “سيف ذو حدين” على جميع الدول المهتمة بتعزيز هذه الصناعة.
وأضافت في تصريحات لـ”الشرق” أن سياساته قد تُحفز احتمالية التقلبات التنظيمية في الدول الأخرى، في وقت تعمل دول الخليج على تسريع تطوير بنيتها التحتية للعملات المشفرة لترسيخ مكانتها كمراكز مستقرة وجذابة، “مما يُوفر لها حماية من تقلبات السوق الخارجية”.
من ناحية أخرى، قد يُشجع وجود بيئة تنظيمية أكثر ملاءمةً في الولايات المتحدة على انتقال رؤوس الأموال من الخليج نحو فرص العملات المشفرة الأميركية، خاصةً “إذا كان التوازن المُتوقع بين المخاطر والمكافآت أكثر جاذبية هناك”.
لذلك، سيراقب المستثمرون أي إشارات قد تخرج من الاجتماع الأميركي الخليجي لرؤية توجهات الإدارة بالنسبة للقطاع، خصوصاً أن أيٍّ من الاتجاهين “يعتمد على تفاصيل اللوائح التنظيمية الأميركية والخليجية، وعلى المشهد الاقتصادي العالمي بشكل عام”، وفق موشيني.
الملفات السياسية عالقة
مع ترمب لا يمكن فصل السياسة عن الاقتصاد، فهو يمارس ضغوطاً اقتصادياً على عدة دول، مثل الصين وإيران وفنزويلا وروسيا، بهدف التوصل لتنازلات سياسية.
تتمتع غالبية دول الخليج بعلاقات جيدة مع كل من روسيا والصين وتحسنت مؤخراً علاقاتها مع إيران، وسبق أن عبّرت في مناسبات عدة عن أنها لن تكون طرفاً ضد الآخر.
هذه العلاقات قد توفر أرضية يمكن من خلالها الانطلاق لحل هذه الأزمات، خصوصاً أن ترمب تعهد بإنهائها في بداية ولايته الرئاسية الثانية.
كما أن زيارة ترمب إلى الخليج قد تقدم للمستثمرين بعض الإيضاحات بشأن كيفية تعامل الإدارة الأميركية مع هذه الملفات، وكيفية تأثير أي صفقة معها على الاقتصاد العالمي.
ولكن الثابت في بحر متغيرات ترمب يظل أن زيارته الخارجية الأولى إلى الخليج تشير إلى أن المنطقة لا تزال شريكاً استراتيجياً لا يمكن تجاهله، كما قد تقدم بعض الوضوح الاقتصادي والسياسي للمستثمرين الذين يعانون لفهم سياسات ترمب.