العملة الروسية فاجأت الأسواق بصعودها القوي منذ مطلع عام 2025، في ظل العقوبات الغربية المشددة على موسكو منذ غزو أوكرانيا في فبراير 2022. وفي حين كان من المتوقع أن يشهد الروبل الروسي تراجعاً حاداً، إلا أنه تجاوز التوقعات وحقق مكاسب ملحوظة أمام الدولار والذهب. هذا الأداء الاستثنائي يطرح تساؤلات حول العوامل التي ساهمت في صعود الروبل رغم القيود الاقتصادية المفروضة.
1- كيف كان أداء الروبل مقابل الدولار منذ بداية العام؟
واصل الروبل الروسي أداءه القوي لتتجاوز مكاسبه 42% أمام الدولار، محافظاً بذلك على صدارة العملات الأفضل أداءً منذ بداية العام حتى 27 مايو، بحسب بيانات “بلومبرغ”.
وفي منتصف الشهر الماضي، صعد الروبل الروسي إلى 80.22 مقابل الدولار الأميركي في السوق المحلية، وهو أقوى مستوى له منذ 31 مايو 2023، بحسب بيانات “بنك روسيا”.
ومنذ يونيو 2024، يعتمد البنك المركزي الروسي على معاملات ما بين البنوك لاحتساب سعر الصرف، بعد أن فرضت الولايات المتحدة عقوبات على بورصة موسكو.
2- ما العوامل التي تقف وراء صعود الروبل؟
يأتي في مقدمة هذه العوامل تشديد السياسة النقدية، حيث أبقى البنك المركزي الروسي على سعر الفائدة الأساسي عند 21%، بهدف كبح التضخم، مما ساهم في جذب رؤوس الأموال وتوفير بيئة مناسبة لتجارة الفائدة ودعم العملة المحلية وكبح الواردات وتقليل الطلب على العملات الأجنبية.
في الوقت ذاته، تُلزم السلطات الروسية المصدرين ببيع جزء من عائداتهم بالعملات الأجنبية في السوق المحلية، ما يضيف مزيداً من الدعم للروبل.
إضافة إلى تراجع الدولار، حيث تراجعت العملة الأميركية في ظل استمرار تقلبات سياسات الرسوم الجمركية، وزيادة مخاوف المستثمرين تجاه الأصول الأميركية، الأمر الذي يساهم في صعود الروبل الروسي.
وأظهر تقرير حديث للبنك المركزي الروسي، أن الشهية لشراء العملات الأجنبية داخل روسيا تتراجع تدريجياً، وأنها انخفضت بالفعل إلى أدنى مستوياتها منذ فرض العقوبات على بورصة موسكو، وتعليق تداول الدولار الأميركي واليورو.
وبحسب البنك، فإن مبيعات العملات الأجنبية المرتبطة بالصادرات تراجعت 2% فقط رغم الانخفاض الكبير في أسعار النفط، ما يشير إلى أن المصدرين ما زالوا يحولون عائداتهم إلى الروبل الروسي بوتيرة مستقرة.
كما أن تحسن العلاقات الجيوسياسية بين موسكو وواشنطن ساهم في تعزيز الثقة بالاقتصاد الروسي، مما انعكس إيجابياً على قيمة الروبل. ودعمت حالة التفاؤل بشأن احتمال انتهاء الحرب التي يشنها الكرملين على أوكرانيا العملة الروسية منذ مطلع العام الجاري، في ظل سعي الرئيس الأميركي دونالد ترمب لوضع نهاية للقتال. وفرضت روسيا قيوداً على حركة رأس المال، مما قلل من هروب رؤوس الأموال ودعم استقرار العملة.
لكن ورغم كل هذه المكاسب، فإن بيانات بنك روسيا المركزي في منتصف أبريل تظهر أن الروبل ارتفع بنسبة 19% فقط في السوق المحلية ليبلغ نحو 82.77 مقابل الدولار هذا العام، أي أقل من المكاسب المسجلة في الأسواق الخارجية.
ويُعزى هذا التباين إلى اختلاف أسعار الصرف في نهاية العام الماضي، عندما كانت الأسواق الروسية مغلقة بسبب العطلات، بينما استمرت التداولات العالمية.
كما أن تداول الدولار في بورصة موسكو لا يزال معلقاً منذ العقوبات الأميركية التي فُرضت في صيف العام الماضي، مما دفع بالأنشطة المرتبطة بالدولار إلى أسواق التداول خارج البورصة. وأدى ذلك إلى تعقيد عملية تحديد الأسعار وأسفر عن فجوة بين التسعير المحلي والدولي للعملة.
قال أليكس إسياكوف، كبير الخبراء في شأن الاقتصاد الروسي لدى “بلومبرغ: استفاد الروبل من ثلاثة تطورات منذ بداية العام: أولها تحسن العلاقات بين بوتين وترمب، مما عزز الثقة في الأسواق الروسية وقلل الطلب على الأصول بالعملات الصعبة؛ وثانيها السياسة النقدية المتشددة التي قللت من الطلب المحلي على الواردات، وزادت من المعروض الصافي من العملات الأجنبية؛ أما الثالث فهو استخدام الحكومة الروسية لصندوق الثروة الوطني لبيع العملات الصعبة وتحقيق التوازن في مواجهة انخفاض أسعار النفط”.
3- كيف يؤثر ارتفاع الروبل على الاقتصاد الروسي؟
يساهم ارتفاع الروبل في خفض تكلفة الواردات، مما يقلل معدل التضخم ويجذب الاستثمارات الأجنبية الباحثة عن عوائد مرتفعة، وتعزيز ثقة المستثمرين في الاقتصاد الروسي.
من ناحية أخرى، من شأن صعود الروبل، أن يخفض عائدات الصادرات خاصة النفط، التي تحتاج لها الدولة لتوفير الإنفاق الكبير على بنود الميزانية، كما يؤثر على الصادرات، إذ يؤدي ارتفاع قيمة الروبل إلى تقليل تنافسية الصادرات الروسية في الأسواق العالمية.
فاجأ صعود الروبل الحكومة الروسية التي بنت موازنة عام 2025 على سعر صرف متوسط يبلغ 96.5 روبل مقابل الدولار، أي أن سعر الصرف الحالي للروبل حالياً أقوى بنسبة 14% من تقديرات الحكومة، وفق “بلومبرغ”. وفي ظل تزامن قوة العملة مع انهيار أسعار النفط، تواجه روسيا خطر تراجع عائدات التصدير المتوقعة.
هوت عائدات روسيا من صادرات النفط في أبريل إلى أدنى مستوى لها منذ ما يقرب من عامين، مع انخفاض أسعار الخام العالمية وسط ضعف الطلب، وفقاً لوكالة الطاقة الدولية. وذكرت الوكالة، ومقرها في باريس في تقرير حديث أن روسيا حققت 13.2 مليار دولار من صادرات النفط الخام والمنتجات النفطية الشهر الماضي، وهو أدنى مستوى منذ يونيو 2023. وميزانية روسيا شديدة التأثر بانخفاض أسعار النفط؛ إذ تمثل صناعة النفط والغاز نحو 30% من الإيرادات العامة.
انخفضت أسعار النفط الخام إلى أدنى مستوياتها منذ نحو 4 سنوات، وسط توقعات بأن تؤدي الحرب التجارية التي يخوضها ترمب إلى تقويض الطلب، في وقت تخلى فيه تحالف “أوبك+” بقيادة المملكة العربية السعودية وروسيا عن استراتيجيته طويلة الأمد لدعم أسعار النفط.
4- ما التوقعات المستقبلية لأداء الروبل الروسي؟
رغم المكاسب القوية، لا يزال العديد من المحللين متحفظين بشأن أداء الروبل. ففي استطلاع أجراه “بنك روسيا” في مارس، توقعت الأغلبية أن يبلغ متوسط سعر صرف الروبل نحو 98.5 مقابل الدولار خلال العام الجاري.
وأشار البنك المركزي الروسي إلى أن ارتفاع الروبل قد يكون ناجماً عن تجدد اهتمام المستثمرين بالأصول الروسية وسط تحسن نسبي في الأوضاع الجيوسياسية. كما رجح التقرير أن يكون سعر الفائدة الأساسي المرتفع نسبياً أحد العوامل الداعمة للعملة.
كما يتوقع بعض المحللين استمرار العوامل الإيجابية التي تعزز أداء الروبل في المدى القريب. وقال إسكندر لوتسكو، رئيس قسم الأبحاث وإدارة المحافظ بشركة “آي ستار كابيتال” (Istar Capital) في دبي بمقابلة مع بلومبرغ: “لا توجد محفزات واضحة حالياً لضعف الروبل، خاصة مع استبعاد خفض أسعار الفائدة خلال الربع المقبل”.
فيما قالت صوفيا دونيتس، كبيرة الاقتصاديين في شركة “تي إنفستمنتس” (T-Investments): “على عكس معظم عملات الأسواق الناشئة، لا يواجه الروبل ضغوطاً ناجمة عن هروب رؤوس الأموال، إذ إن القيود المفروضة على حركة رأس المال وفرت حماية كبيرة للاقتصاد الروسي، كما أن ارتفاع تكلفة الاقتراض المحلي يدعم العملة الروسية”.