خفضت وكالة “موديز” التصنيف الائتماني الممتاز للولايات المتحدة بمقدار درجة واحدة إلى “Aa1″، لتحذو بذلك حذو وكالتي “إس آند بي غلوبال” و”فيتش”.
على الرغم من أن هذا الخفض لا ينبغي أن يكون مفاجئاً فعلياً، إلا أن التاريخ يشير إلى أن مثل هذا التطور ينذر باضطرابات محتملة في سوق السندات خلال الأسابيع والأشهر المقبلة، ونُضطر إلى مواجهة حقائق لطالما تجاهلناها عمداً.
يمكن أن نشكك بشأن العلاقة السببية المباشرة، لكن المؤشرات تدل على أن أموراً سيئة مهيأة للحدوث حين يتم التشكيك في التصنيف الائتماني للولايات المتحدة.
عندما خفضت “إس آند بي” التصنيف في أغسطس 2011، قفزت عوائد السندات الأميركية لأجل عشر سنوات في البداية، لكنها سرعان ما عادت للانخفاض بعد أن تراجع مؤشر “إس آند بي 500″، وتعاملت الأسواق مع الحدث كفرصة للهرب نحو الملاذات الآمنة.
أما في أغسطس 2023، فلم يكن الأثر في السوق واضحاً بالدرجة نفسها من اللحظة الأولى، رغم أنه كان تأثيراً خفياً لا يقل خطورة. كما أشار محللو “وول ستريت” آنذاك، شهدنا هذا السيناريو من قبل، كان الأمر يتعلق بوكالة “فيتش” تحديداً، تلك التي لا تحظى بالإرث العريق نفسه الذي تتمتع به وكالات التصنيف الأخرى.
خفض التصنيف الائتماني وتقلبات السندات
لكن خفض التصنيف في عام 2023 كان بمثابة الشرارة التي أعادت إشعال نقاش مالي كان قد بدأ في أوائل الصيف، إذ ارتفعت العوائد على السندات لأجل عشر سنوات بنحو 103 نقاط أساس خلال 56 جلسة تداول لاحقة، لتصل إلى أعلى مستوياتها منذ عام 2007.
وانتهز الملياردير بيل آكمان هذه اللحظة، ليعلن في اليوم التالي عن رهان انخفاض قيمة السندات الأميركية طويلة الأجل. كما قفز مؤشر “MOVE” من “آي سي إي بنك أوف أميركا”، الذي يقيس التقلبات الضمنية في سوق السندات، بمقدار مماثل تقريباً بعد خفض “فيتش”، مثلما حدث عقب خفض “إس آند بي”.
تبقى مسألة العلاقة السببية معقدة. ففي بداية موجة البيع عام 2023، بدا أن السوق تعيد تسعير توقعاتها بشأن التضخم والسياسة النقدية. لكن مع تقدم الوقت، بدأت ما يُعرف بـ”علاوة الأجل” بالارتفاع. بحلول سبتمبر، تحول مؤشر “أدريان وكرومب وموينش” لعلاوة الأجل إلى مستوى إيجابي، وهو ما عكس بوضوح تصاعد المخاوف المالية.
كان الأمر بمثابة عاصفة عاتية، ساهمت “فيتش” في إطلاق شرارتها، وارتفعت عوائد السندات الأميركية لأجل 10 سنوات بمعدل أكبر بكثير من نظيراتها في الأسواق المتقدمة الأخرى مثل اليابان وألمانيا.
جزء من القصة، على ما أعتقد، يتعلق بما وصفه الاقتصادي كريستوفر سيمز بـ”اللامبالاة العقلانية”، أي فكرة أن المستثمرين وغيرهم من الفاعلين الاقتصاديين يملكون وقتاً واهتماماً محدودين، ويتعاملون مع الواقع بناءً على فهم غير كامل للوقائع. ببساطة، نحن نتجاهل كثيراً من المعلومات إلى أن يصبح ذلك مستحيلاً.
الدين الأميركي والعجز الفيدرالي
في ما يتعلق بالدين والعجز الفيدرالي، فهما مشكلتان متفاقمتان منذ عقود. مع ذلك، يتجاهلهما المستثمرون عادة في تحليلاتهم اليومية، وكانوا محقين في ذلك لفترة طويلة.
فالقائمون على إدارة أقوى اقتصاد في العالم يستطيعون دائماً سداد ديونه (كما قال ألان غرينسبان ذات مرة: “يمكننا دائماً طباعة المزيد من الأموال”). في المستقبل المنظور، ستواصل الولايات المتحدة جذب المشترين لسنداتها (فأين سيجد المستثمرون سوقاً للديون بهذا الحجم والسيولة؟).
غالباً ما يكون مستثمرو الدخل الثابت أكثر فائدة حين يكرسون وقتهم لتحليل بيانات التضخم وسوق العمل، أو لفهم خطابات أعضاء لجنة السوق المفتوحة في “الاحتياطي الفيدرالي”.
في الآونة الأخيرة، باتوا مضطرين أيضاً إلى التعمق في العلاقات التجارية العالمية (واللوم هنا على دونالد ترمب، “رجل الرسوم الجمركية”)، وحتى في النقاشات القانونية حول ما إذا كان للرئيس الحق في إقالة رئيس “الاحتياطي الفيدرالي” جيروم باول (آمل ألا يحدث ذلك، ولا أعتقد أنه قانوني، لكنه قد يُحسم بصعوبة في المحكمة العليا).
من الواضح أن العجز الأميركي مهم، لكنه لا يُقاس بالمقياس نفسه الذي يُستخدم مع الدول الأخرى التي لا تصدر العملة الاحتياطية العالمية. فإذا لجأت أميركا إلى طباعة الأموال، فإن المستثمرين في السندات سيدفعون ثمن “خطاياها” على شكل تضخم.
تدفعنا تخفيضات التصنيف الائتماني إلى التفكير في هذه السيناريوهات، وفي السياق الحالي، إلى تذكيرنا بحقيقة أن الولايات المتحدة راكمت ديوناً تساوي تقريباً إجمالي ناتجها المحلي. فالعجز الحالي يبلغ نحو تريليوني دولار سنوياً، ويعمل المشرعون الجمهوريون على تمرير صفقة ضريبية قد تُضيف نحو 3.3 تريليون دولار أخرى إلى الدين بحلول عام 2034، بحسب تقديرات لجنة الميزانية المسؤولة.
اضطرابات مفاجئة في الأسواق بأميركا
هل ستنجو أميركا من هذا؟ بالطبع، لكنها قد تُفاجأ باضطرابات قصيرة الأمد في الأسواق، وسيتطلب الأمر تعديلات صعبة على المدى المتوسط.
تذكروا أن الأسواق تجاهلت هذه القضية لسنوات. وتخيّلوا طالباً كان سارحاً في خياله خلال الحصة، ثم ناداه المعلم فجأة. ستكون صدمة! وربما يشكل خفض “موديز” للتصنيف مجرد جزء محدود من هذه اليقظة المفاجئة، وقد يكون نتيجة أكثر منه سبباً.
صحيح أيضاً أن التقلبات قد تسير في الاتجاه المعاكس، كما حدث في عام 2011، حين انخفضت العوائد نتيجة توجّه المستثمرين نحو الملاذات الآمنة.
لكن بخلاف 2023، فإن تكاليف الاقتراض الحالية تبدأ من مستوى مرتفع نسبياً، خصوصاً في ظل المخاطر التي تتهدد سوق العمل. مع استمرار النقاشات المالية في الكونغرس، ستبقى أنظار الجمهور موجّهة إلى هذه المسألة خلال الأسابيع المقبلة. وعلى الأقل في المدى القصير، فإن الانتقال من الحلم إلى الواقع مرشّح لأن يهزّ الأسواق مجدداً، كما فعل في كل مرة سابقة.