سجلت شاشات التداول اليوم رقماً بدا قبل سنوات ضرباً من الخيال: 3334.20 دولار سعر أونصة الذهب. لم يكن ذلك ارتداداً تقنياً عابراً، بل لحظة فارقة أعادت تعريف المشهد المالي العالمي.
الارتفاع اللافت بنسبة 26% منذ بداية العام ليس مجرد صدفة عابرة، بل يعكس تحولاً أعمق في مزاج المستثمرين. هم الآن يبحثون عن الأمان في وجه موجات الغموض السياسي والاقتصادي. وعلى رأس هؤلاء المستثمرين: البنوك المركزية التي كثفت مشترياتها من المعدن الأصفر، وصناديق الاستثمار المتداولة التي تشهد تدفقات متزايدة.
ووفقاً لـ”غولدمان ساكس”، من المتوقع أن يصل سعر أونصة الذهب إلى 4000 دولار بحلول منتصف عام 2026، مدعوماً بزيادة شهية البنوك المركزية، التي يُتوقع أن تشتري 80 طناً شهرياً، بدلاً من 70 طناً كما كان يُعتقد سابقاً.
شركات تعدين الذهب: أخيراً في المقدمة؟
لكن المفاجأة الحقيقية لم تأتِ من الذهب، بل من صانعِه. ولأول مرة منذ عقدين، تُسجل أسهم شركات التعدين أداءً يفوق المعدن ذاته، وفق تقرير من “بلومبرغ إنتلجنس” أعده مدير قسم التعدين غرانت سبور والمحلل إيمانيويل مونجيري.
لطالما كان أداء شركات التعدين دون طموحات المستثمرين، رغم صعود أسعار الذهب. غير أن عام 2025 قد يكون استثناءً حقيقياً. فقد عززت هذه الشركات انضباطها المالي، وقلّصت التكاليف، ونجحت في الاستفادة من عمليات اندماج واستحواذ استراتيجية. نتيجة لذلك، ارتفع مؤشر “بلومبرغ إنتلجينس لأسهم شركات الذهب الكبرى” بنسبة 38%، متفوقاً على أداء الذهب نفسه البالغ 20%، بل وتجاوز أيضاً جميع مؤشرات الأسهم العالمية.
المفارقة، وفق التقرير، أن شركات التعدين الأعلى تكلفة -والتي كانت تعتبر سابقاً أكثر هشاشة- أصبحت الآن جذابة أكثر، بفضل ارتفاع سعر الذهب. فقد تفوقت أسهم شركات مثل “أنغلو غولد” (AngloGold) و”غولد فيلدز” (Gold Fields) على منافسيها الكبار “نيوماونت” (Newmont) و”باريك” (Barrick) بنسبة تراوحت بين 34% و60% خلال العام الجاري. غير أن هذا التفوق مشروط باستمرار الزخم الصعودي للذهب؛ ففي حال تراجعت الأسعار، قد تتعرض هذه الأسهم الأعلى مخاطرة إلى هبوط حاد.
السياسة تدخل على خط المناجم
لكن ليس كل شيء وردياً في عالم الذهب. فشركة “غولد فيلدز” (Gold Fields) تلقت ضربة قوية حين أمرتها السلطات الغانية بإخلاء منجم “دامانغ”، بعد رفض تمديد عقد الإيجار. رغم أن هذا المنجم يمثل نحو 6% فقط من إنتاج الشركة، فإن القرار يسلط الضوء على التحديات السياسية والقانونية التي تواجه شركات التعدين في الأسواق الناشئة.
وفي مالي، واجهت “باريك غولد”(Barrick Gold) انتكاسة أخرى، بعدما أغلقت السلطات مكتبها الرئيسي في العاصمة باماكو بسبب نزاع ضريبي. وبينما تسعى الشركة لتحسين أداء منجمها في “نيفادا” وإعادة تشغيل منجم “لوولو-غونكوتو”، تظل تحت ضغط تنافسي من شركات مثل “أغينكو إيغل” (Agnico Eagle) و”كينروس” (Kinross) التي تحسن موقعها السوقي في الفترة الأخيرة.
وفي إندونيسيا، تعتزم الحكومة تطبيق نظام جديد لرفع رسوم التعدين بدءاً من 26 أبريل، يشمل الذهب وسلعاً استراتيجية أخرى مثل النيكل والنحاس، ما قد يؤثر على التكاليف التشغيلية مستقبلاً.
هل فات أوان الاستثمار بشركات الذهب؟
من الناحية التقييمية، لا تزال شركات الذهب تتداول بمضاعفات منخفضة مقارنة بمتوسطاتها التاريخية، مما يوفر هامش حماية في حال تراجع أسعار الذهب. يبلغ متوسط مضاعف القيمة السوقية إلى الأرباح قبل الفوائد والضرائب والاستهلاك 5.5 ضعف؛ أي أقل بقليل من أدنى مستوى خلال العقد الماضي، وفق حسابات سبور ومونجيري.
وتبدو شركات مثل “كينروس” و”غولد فيلدز” و”أنغلوغولد” في وضع جيد بعد إعادة تقييم إيجابية نتيجة أداء تشغيلي قوي. في المقابل، لا تزال “نيوماونت” و”باريك” تُتداول بأسعار أقل من متوسط القطاع، مما يمنحها فرصة محتملة لإعادة التقييم إذا تحسن أداؤها، بحسب المحللين.
في الختام: ما الذي يقود الذهب إلى الأمام؟
تتجمع عدة عوامل لدفع الذهب إلى آفاق جديدة: تزايد المخاوف من الركود، استمرار ضعف الدولار، وتصاعد التوترات الجيوسياسية، إلى جانب مشتريات غير مسبوقة من البنوك المركزية. وفي هذا السياق، لا يُعد الذهب مجرد ملاذ، بل أداة تحوط استراتيجية بامتياز.
لكن في ظل هذا الزخم، تبرز شركات التعدين كلاعب جديد يستحق المتابعة. إذا استمر الذهب في مساره التصاعدي، فقد نرى أخيراً قطاعاً طالما خيب الآمال يتحول إلى نجم المرحلة المقبلة.