لا تسير سياسة دونالد ترمب الاقتصادية على النحو المرغوب، وإذا كنت بحاجة إلى دليل آخر بخلاف تقلب أسعار الأسهم، فما عليك سوى النظر إلى تراجع قيمة الدولار.
وبينما تمنى عدد من المقربين من ترمب في بعض الأحيان تراجع العملة الخضراء لدعم الإنتاج المحلي، فلم يكن من المفترض أبداً أن يحدث بهذه الطريقة؛ تراجع مفاجئ في أسوأ توقيت ممكن.
قد ترتبط سياسة ترمب لإضعاف الدولار بشكل وثيق في الفترة الحالية بستيفن ميران، رئيس مجلس المستشارين الاقتصاديين لترمب. إذ قال في خطاب في “معهد هدسون” الأسبوع الماضي إن المكانة المميزة للدولار في القطاع المالي العالمي “سببت اختلالات مستمرة في أسعار الصرف، كما أدت إلى عجز لا يُطاق في الميزان التجاري في ظل الحواجز التجارية المجحفة التي تفرضها الدول الأخرى”. (ميران ليس مخطئاً في تحليله، رغم أنني أرى أنه قلل من أهمية المنافع الكبيرة المترتبة على مكانة الدولار بصفته عملة احتياطية، وهي نقطة سأعود إليها فيما بعد).
ترمب نفسه غيّر موقفه تماماً تجاه الدولار، فخلال ولايته الأولى انتقد ضعف العملتين الصينية والأوروبية، وأشار إلى أنه يجب على الولايات المتحدة الحذو حذوهما. وفي المقابل، فقد هدد أيضاً في الآونة الأخيرة بمعاقبة الدول التي تسعى للابتعاد عن التجارة المعتمدة على الدولار.
تبعات الرسوم الجمركية
لكن لم يرد أحد -وميران بالطبع- تراجعاً مفاجئاً أثار الخوف في قلوب المتعاملين في السوق، وقد يؤدي إلى تفاقم التضخم وعجز الموازنة.
إلا أن هذا ما حدث، حيث تراجع مؤشر الدولار الأميركي 0.8% الجمعة، ليبلغ إجمالي انخفاضه نحو 8.5% منذ تنصيب ترمب.
وجاء التراجع بعدما أعلنت إدارة ترمب عن فرض أعلى رسوم جمركية منذ قرن، ما أدى إلى موجة بيع عنيفة -وإن كانت متوقعة إلى حدٍّ ما- في مؤشر “إس آند بي 500”. رغم ذلك، فما فاجأ عديد من المستثمرين كان تراجع الاستثمارات “الآمنة” التقليدية مثل سندات الخزانة والدولار، ما ألمح إلى فقدان الثقة على نطاق واسع في الحكومة الأميركية، ما يمثل شعوراً بالقلق لا يقتصر على الأهداف الاستراتيجية للإدارة الأميركية من الرسوم الجمركية، بل وعلى الأسلوب غير المتقن في تطبيقها.
يبدو أن إدارة ترمب اعتمدت في وضع السياسة على حسابات غير دقيقة، ولم تصحح مسارها إلا بعد ضغط من إيلون ماسك، أثرى شخص في العالم، والمستثمر بيل أكمان. وبدا أن فريق ترمب قد تراجع بشكل أكبر عن سياسة “التعريفات المتبادلة” الأولية في ساعة متأخرة يوم الجمعة، حيث عدلها بإعفاء الهواتف الذكية والحواسيب والأجهزة الإلكترونية الأخرى، وفق تحديث نشرته هيئة الجمارك وحماية الحدود.
وفي برنامج “ذيس ويك” على قناة “إي بي سي” يوم الأحد، بدا أن وزير التجارة هوارد لوتنيك يتراجع عن هذا التراجع، إذ قال إن الواقع أن المنتجات المعفاة ستخضع لرسم جمركي منفصل مخصص لفئتها خلال الفترة المقبلة. وفي تحول أكثر غرابة وميلاً لإعادة سرد الأحداث، كتب الرئيس ترمب في منشور على منصة “تروث سوشيال” في ساعة متأخرة من يوم الأحد: “لم يُعلَن عن أي استثناءات من الرسوم الجمركية يوم الجمعة”. النتيجة أن التخبط والضبابية منتشران كعادتهما. نال معسكر “ضعف الدولار” في دائرة ترمب ما تمناه، ولكن بطريقة مختلفة عما تصوره.
ضغوط التضخم وعجز الموازنة
لنتعمق في تفاصيل التوقيت غير الموفق. في بحث صدر في نوفمبر 2024 بعنوان “دليل المستخدم لإعادة هيكلة نظام التجارة العالمية” (A User’s Guide to Restructuring the Global Trading System)، طرح ميران مجموعة من الخيارات بهدف إعادة تشكيل نظام التجارة الدولية الذي اعتبره عبئاً مجحفاً يثقل كاهل الولايات المتحدة. واعتبر أن الخيارين يتمثلان في الرسوم الجمركية وتخفيض قيمة العملة.
ورغم توقعه بأن يؤدي فرض الرسوم الجمركية إلى ارتفاع الدولار على الأرجح، أشار إلى أن تخفيض قيمة الدولار بشكل متعمد ينطوي على مخاطر أكبر، وأنه ينبغي على حكومة ترمب ألا تتسرع بشكل أكبر من اللازم في القيام بهذه المناورة.
كما كتب ميران في البحث: “يُحتمل أن تنتظر الحكومة تزايد الثقة في تراجع التضخم وعجز الموازنة للحد من الارتفاعات المحتملة ذات التأثير السلبي في عائدات السندات طويلة الأجل التي قد تصاحب أي تغيير في سياسة الدولار”، وتوقع في ظل الأوضاع الاقتصادية الراهنة أن تؤدي السياسة إلى “ارتفاع الدولار قبل أن تسبب تراجعه”. إلا أن توقعاته لم تتحقق.
جاء تراجع الدولار خلال الأسابيع القليلة الماضية في إطار تضخم لا يزال مرتفعاً وعجز في الموازنة يستمر في التزايد، وقد يفاقمه الأعضاء الجمهوريين في الكونغرس الأميركي بتخفيضات ضريبية جديدة، من بينها جهود تمديد العمل بأحكام قانون التخفيضات الضريبية والوظائف لعام 2017 التي شارفت صلاحيتها على الانتهاء.
أظهر تقرير صدر الخميس أن مؤشر أسعار المستهلكين الأساسي -الذي يستبعد أسعار الغذاء والطاقة المتقلبة- ارتفع 2.8% على أساس سنوي في مارس. ويُرجح أن يؤدي رفع التعريفات الجمركية إلى ارتفاع كبير في المؤشر خلال 2025، حيث سيزيد تراجع الدولار في الفترة الحالية الضغط على أسعار الواردات.
رغم ذلك، تعكس بيانات استطلاع رأي المستهلكين التي أصدرتها “جامعة ميشيغان” مصدر قلق أكبر، إذ تشير إلى أن الأسر فقدت ثقتها في إجراءات خفض التضخم، في ظل ارتفاع توقعات التضخم إلى أعلى مستوى منذ عقود.
ويرى المحللون الاقتصاديون أن توقعات التضخم قد تحقق نفسها بنفسها، وقد تشكل سلوكيات المستهلكين العنصر الأساسي في استيعاب ظاهرة تفشي التضخم التي يسعى الجميع إلى تجنبها.
تراجع الدولار ينعكس على مستثمري السندات
على نحو مشابه، فإن أوضاع المالية العامة غير مناسبة لخفض قيمة الدولار. وبشكل عام، فإن التقلبات الكبيرة في أسعار الصرف، مثل التي شهدناها في الدولار في الآونة الأخيرة، قد تؤدي إلى تأثيرات سلبية جسيمة على حائزي السندات من الأجانب في حالة استمرارها. تعاني الحكومة من عجز في الموازنة يمثل نحو 7% من الناتج المحلي الإجمالي، وهو مستوى لا يُسجل إلا خلال الأزمات الكبرى، ويُعد ارتفاع صافي مصروفات الفوائد أحد العوامل الرئيسية في ارتفاع العجز.
كشف وزير الخزانة سكوت بيسنت أنه والرئيس ترمب يعطيان الأولوية لخفض معدلات العائد على سندات الخزانة لأجل 10 سنوات، التي تعد مؤشراً رئيسياً على تكاليف الاقتراض بما يشمل سندات الشركات والقروض العقارية السكنية. لكن اضطراب السوق في الآونة الأخيرة بدد أي إشارات ملموسة على إحراز تقدم في هذا الشأن.
للاستعانة بمثال مشابه لما طرحه ميران في بحثه، لننظر إلى الأمر من منظور مستثمر أجنبي في سنداتنا؛ أدى انخفاض الدولار بنحو 8.5% إلى خسارته مدفوعات فوائد لعامين تقريباً على سندات الخزانة لأجل عشر سنوات بعد أن بلغ العائد 4.46% الجمعة. لا عجب إذن أن تتفاقم الأوضاع وتتحول إلى ما يبدو على أنه ذعر في السوق.
ريادة النظام المالي لها تحدياتها
لحسن الحظ، لا تزال وزارة الخزانة تلقى طلباً معقولاً في المزادات الدورية على الأوراق المالية الجديدة، لكن اعتبار العملة مرتفعة المخاطر قد يدفع المستثمرين إلى مطالبة الحكومة الأميركية بمعدلات فائدة أعلى.
ربما سنتذكر الفترة الحالية على أنها لحظة “احذر مما تتمنى”. وبلا شك هناك تحديات مرتبطة بكون الولايات المتحدة مركز النظام المالي العالمي.
في الفترات العادية، يمكن القول إن توقعات أمان واستقرار عملتنا وسنداتنا تؤدي إلى مبالغة طفيفة في تقييمهما، لكن ذلك يُترجم أيضاً إلى خفض تكاليف الاقتراض، وانخفاض أسعار السلع الاستهلاكية المستوردة، والقدرة على اقتراض مبالغ ضخمة حتى في ظل اندلاع الحروب أو تفشي الجوائح، وهي الأوقات التي تشتد فيها الحاجة إلى الاقتراض. وكحال كل شيء، هناك مفاضلات تنشأ عن شغل هذه المكانة. وعن نفسي، أرى المنافع تبرر التكلفة.
قد يختلف آخرون معي في الرأي، ويعتبرون قوة الدولار عبئاً على قطاع التصنيع الأميركي. وحتى من يوافقون على هذه النظرية سيعترفون بأن توقعهم تحقق في أسوأ توقيت ممكن.