بات مستقبل منصات البث المباشر مثل “نتفلكس” و”ديزني+” و”أمازون” مرتبطاً بتطور تقنيات الدبلجة المتوافقة مع حركات الفم باستخدام الذكاء الاصطناعي، بموازاة التركيز على المحتوى النابع من ثقافات محلية لتلبية أذواق الجمهور، مدفوعاً بنجاح المسلسلات من كوريا الجنوبية بشكلٍ لافت، بالإضافة لاعتماد نموذج للإيرادات يمزج بين الاشتراكات المدفوعة والإعلانات، حسبما كشف تقرير حديث صادر عن “فارايتي أنتلجنس بلاتفورم” (Variety Intelligence Platform).
رغم اتساع قاعدة المشتركين في المنصات التي تتيح الوصول لمكتبات ضخمة من الأفلام والمسلسلات والبرامج، إلا أن “العائدات ظلت أقل من التوقعات”، وفق التقرير الذي أشار إلى أن شركات الإنتاج العملاقة ضخّت مليارات الدولارات للاستثمار في المحتوى، حيث أنفقت “ديزني” خلال العام الحالي 32.1 مليار دولار للاستثمار في إنتاج المحتوى، بينما أنفقت “كومكاست” 27.5 مليار دولار، و”أمازون” 22.2 مليار دولار، تليها “نتفلكس” بـ19.6 مليار دولار.
الحصة الأكبر من هذه الاستثمارات كانت في الولايات المتحدة، لكن يتوقع أن يتراجع الإنفاق في السوق الأميركية بنسبة 20% مع حلول عام 2028، بسبب تغير ذوق الجمهور، وسط إخفاق المنصات في تحقيق الفوائض المالية المتوقعة، وفقاً للتقرير.
“لعبة الحبار” يقلب المشهد
دفع نجاح مسلسل “Squid Game” (لعبة الحبار) الكوري الجنوبي قطاع صناعة الترفيه بأكمله إلى مراجعة خططه، والتفكير في التركيز على محتوى محلي يتم إنتاجه في بلدان مختلفة لتوسيع قاعدة المشتركين. حيث سجل الموسم الأول من المسلسل مشاهدات تجاوزت 2.2 مليار ساعة خلال أول 90 يوماً من عرضه، ليصبح أكثر الأعمال غير الناطقة بالإنجليزية مشاهدة على “نتفلكس”، ما شجع المنصة على تعزيز الاستثمار في إنتاج الأعمال في كوريا واليابان ودول آسيوية أخرى.
نال مسلسل “لعبة الحبار” شهرة كبيرة عبر العالم وحقق نجاحاً مدوياً، حيث تدور قصته حول أشخاص مثقلين بالديون يشاركون في مسابقة مميتة للحصول على جائزة نقدية.
ومع تزايد الطلب على المحتوى الكوري، حقق مسلسل “All of Us Are Dead” نسبة مشاهدة مرتفعة أيضاً ويحكي قصة تحول مدرسة ثانوية إلى بؤرة لتفشي فيروس الزومبي ويتعين على الطلاب أن يقاتلوا للخروج من المأزق. وإن كان لم تصل إلى النجاح الأسطوري للمسلسل الأول.
تزامن توجه “نتفلكس” و“أمازون” للتوسع في إنتاج المحتوى المحلي عالمياً، مع زيادة المنافسة مع المنصات المحلية التي تسعى لتلبية متطلبات الجمهور في مناطقها، من خلال أعمال محلية تعكس ثقافة المجتمع وتفاصيل الحياة اليومية في تلك الدول.
تغييرات في لعبة المنافسة
ارتفعت نسبة البرامج غير الإنجليزية على منصات البث؛ من 23% في 2021 إلى 33% في 2023، مع تزايد الإقبال على المحتوى المحلي من قبل جمهور يتطلع إلى رؤية ثقافاته الخاصة على الشاشة. ويوضح تقرير “فارايتي” اختلافاً بين المناطق الإقليمية من ناحية نجاح كل منصة.
على سبيل المثال في أميركا اللاتينية، تتفوق “نتفلكس” بعدد مشتركين يقترب من 55 مليون مشترك بحلول 2029. في حين تحظى “ديزني+” بـ22.2 مليون مشترك، وتبلغ حصة “أمازون” 21 مليون مشترك، ما يعكس هيمنة الشركات الأميركية على السوق اللاتينية بنسبة تصل إلى 83% من إجمالي المشتركين.
أما في أفريقيا، فتسيطر منصتا “شوماكس” (Showmax) و”نتفلكس” على 70% من السوق، بينما تتوزع الحصة المتبقية على عدد من المنصات المحلية، وتتنافس المنصتان على تقديم برامج محلية تتناسب مع الجمهور الأفريقي.
رغم أن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا شهدت دخولاً متأخراً إلى سوق البث، إلا أنها في المقابل حققت نمواً سريعاً، إذ بلغت إيراداتها حوالي مليار دولار في 2023، وتتصدر منصة “شاهد”، المدعومة من مجموعة ”MBC” السعودية، السوق بنسبة 22% من إجمالي المشتركين، تليها “نتفلكس” و”ستارز بلاي أرابيا” (Starzplay Arabia) بـ17% و18% على التوالي، وفقاً لمعطيات التقرير.
هذه التغيرات دفعت الشركات إلى تقليص استثماراتها في الأسواق الأكثر تشبعاً مثل أوروبا الغربية، بينما تبحث عن فرص جديدة للنمو في أسواق ناشئة لا تزال بحاجة إلى تنمية البنية التحتية الرقمية وثقافة البث، مثل أميركا اللاتينية، التي يتوقع أن تشهد نمواً بنسبة 19% خلال السنوات القادمة، وأفريقيا التي من المتوقع أن تحقق نمواً بنسبة 10%.
يخلص تقرير “فارايتي” إلى أن نجاح المنصات مستقبلاً سيعتمد على قدرتها على التكيف مع خصوصيات الأسواق المحلية وتقديم تجارب مشاهدة تتوافق مع احتياجات وتفضيلات المشاهدين المتنوعة حول العالم، لتحقيق التوازن بين تلبية الأذواق العالمية المشتركة والخصوصيات المحلية.
الذكاء الاصطناعي والدبلجة المتطورة
مع تطور الذكاء الاصطناعي، بدأت المنصات بالاستفادة من هذه التقنية في تكييف المحتوى للمشاهدين حول العالم. ينطبق ذلك بشكلٍ خاص على إمكانية استخدامه لدبلجة المحتوى بحيث تتوافق حركات الفم للمتحدثين مع الصوت الجديد، ما يجعل تجربة المشاهدة أكثر واقعية، وهي عملية مازالت في مراحلها الأولى من التطوير.
وبحسب “فارايتي” فإن حوالي 47% من الجمهور الأميركي مستعد لمشاهدة محتوى أجنبي إذا تمت دبلجته بشكل يتماشى مع حركة الفم، بينما أظهر 43% منهم استعداداً لذلك إذا كانت الأصوات الجديدة قريبة من أصوات الممثلين الأصليين.
وتتوقع شركات البث أن يساهم إتقان الذكاء الاصطناعي في الدبلجة في تعزيز ربحية توطين المحتوى عبر تخفيض تكاليف الإنتاج وزيادة الوصول إلى جمهور أوسع.
رغم أن هذه التقنية ما زالت في مراحلها الأولى، فإن العديد من الخبراء يرون أنها ستعيد تشكيل اقتصاديات الصناعة وتوفر حلولًا مبتكرة للتحديات اللغوية والثقافية في المحتوى الرقمي.
نماذج متنوعة للاشتراكات
لمواجهة تباطؤ وتيرة نمو عدد المشتركين، بدأت الشركات في استكشاف نماذج جديدة لزيادة الإيرادات، من بينها تقديم خيارات اشتراك مدعومة بالإعلانات، حيث بادرت منصات مثل “نتفلكس” و”ديزني+” إلى تجربة هذا النموذج في بعض الأسواق، حيث يمكن للمشتركين الاختيار بين دفع اشتراك أعلى للحصول على تجربة خالية من الإعلانات أو الاشتراك بخيار أرخص مع إعلانات مدرجة.
في المقابل، لا يزال هذا النموذج غير جذاب في أسواق مثل الهند، حيث تفضل “نتفلكس” تخفيض أسعارها لجذب المشتركين بدلًا من تقديم إعلانات. بينما تُظهر البيانات أن الخيارات المدعومة بالإعلانات قد تكون أكثر نجاحاً في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية.