تعود فكرة صنع بطاريات من الصوديوم إلى قرون مضت، فقد كتب جولز فيرن في رواية بعنوان (Twenty Thousand Leagues Under the Sea) نشرها في عام 1870، أن “القبطان نيمو” قاد غواصة كهربائية تعمل على الملح. إلا أن التجارب التي أجراها الباحثون على مرّ السنين لتقييم استخدام هذه المادة الرخيصة والمتاحة بوفرة في مجال تخزين الطاقة، أظهرت عجز بطاريات الصوديوم-إيون عن مضاهاة كثافة الطاقة التي توفرها الأنواع الأخرى من البطاريات، بالأخص تلك المستندة إلى الليثيوم.
لكن اليوم، ومع تنامي الطلب العالمي على الطاقة واحتدام التوترات التجارية، عادت هذه التقنية التي طال إغفالها إلى دائرة الضوء.
الاستخدامات في مراكز البيانات
انبثقت شركة “ناترون إنرجي” (Natron Energy) عن أطروحة دكتوراه أعدّها مؤسسها كولين ويسيلز عام 2012، لتصبح واحدة من الشركات القليلة حول العالم التي تنتج بطاريات الصوديوم-إيون على نطاق صناعي، والوحيدة من نوعها في الولايات المتحدة.
افتتحت الشركة أول مصانعها في مدينة هولاند بولاية ميشيغان في أبريل 2024 بعد إنفاق 40 مليون دولار لإعادة تأهيل منشأة قائمة قيمتها 300 مليون دولار. ويُتوقع أن تصل الطاقة الإنتاجية للمصنع إلى 600 ميغاواط من البطاريات سنوياً بحلول نهاية 2025، وهي كمية تكفي تقريباً لتزويد مدينة بحجم سان دييغو بالكهرباء.
.: هل سيزيح الصوديوم الليثيوم من بطاريات السيارات الكهربائية؟
تسعى الشركة حالياً لتأمين تمويل إضافي قدره 1.4 مليار دولار لبناء مصنع جديد في مقاطعة إجكوم بولاية نورث كارولاينا، من شأنه أن يزيد قدرتها الإنتاجية نحو أربعين مرة. وترى “ناترون” أن هذا التوسع ضروري لتلبية طلب عملائها المتزايد، وبينهم مراكز البيانات وشركات الحوسبة السحابية، فيما يواصل الذكاء الاصطناعي استهلاك كميات متزايدة من الطاقة. قال رئيسها التنفيذي ويندل بروكس: “الطلب على الكهرباء سيكون هائلاً جداً”.
عموماً، صنع بطارية صوديوم-إيون أقل كلفة مقارنة ببطاريات الليثيوم-إيون، كما أنها أقل قابلية للاشتعال. إلا أن قدرتها على تخزين الكهرباء ما تزال دون مستوى بطاريات الليثيوم من الحجم نفسه، ما يُعدّ نقطة ضعف في حال استخدامها في تطبيقات مثل السيارات الكهربائية والهواتف الذكية.
لكن القطاعات التي تسجّل النمو الأسرع حالياً في الطلب على حلول تخزين الطاقة، مثل مراكز البيانات والمنشآت الصناعية، لا تبالي كثيراً بحجم البطارية أو وزنها، وفقاً لإيفيلينا ستويكو، رئيسة قسم تقنيات البطاريات وسلاسل الإمداد في بلومبرغ إن إي إف،
لذا أصبح هذا النوع من البطاريات خياراً أكثر جاذبية. وتقدّر بلومبرغ إن إي إف أن تصل حصة بطاريات الصوديوم-إيون إلى 15% من سوق تخزين الطاقة بحلول 2035، مقارنةً مع نحو 1% فقط راهناً.
ريادة صينية
أثار القلق المتزايد بشأن تأمين المواد الأساسية لصنع بطاريات الليثيوم-إيون اهتماماً متجدداً ببطاريات الصوديوم. مع ارتفاع أسعار الليثيوم في 2022، سارع المستثمرون والشركات الناشئة للبحث عن حلول بديلة. وفي ذلك الوقت، باشرت شركتا البطاريات العملاقتان في الصين “كونتيمبوراري أمبيركس تكنولوجي” (Contemporary Amperex Technology) و”بي واي دي” تطوير بطاريات الصوديوم-إيون لاستخدامها في تخزين الطاقة وللمركبات الكهربائية.
قال مارسيل فيل، الباحث في معهد تقييم التقنية وتحليل الأنظمة، وهو مركز أبحاث ألماني مستقل يُعنى بدراسة تقنيات البطاريات: “تسعى الصين إلى تصدّر جميع المجالات التقنية الحيوية، بينما تحاول الدول الأخرى مواكبتها”. لكن أسعار الليثيوم تراجعت لاحقاً، ما سبّب تحديات لشركات بطاريات الصوديوم-إيون الناشئة. مع ذلك، يتوقع المحللون في بلومبرغ إن إي إف أن تستمر أسعار الليثيوم في التقلب خلال السنوات المقبلة.
الرسوم الجمركية الجديدة التي فرضها الرئيس دونالد ترمب على البضائع الصينية عامل إضافي دفع المستثمرين والمصنّعين نحو بطاريات الصوديوم-إيون. إذ إن الصين مسؤولة عن تكرير أكبر كمية من الليثيوم في العالم، كما تنتج الجزء الأكبر من الغرافيت، وهو عنصر أساسي في بطاريات الليثيوم-إيون.
إذا ما قررت بكين وقف تصدير الغرافيت، أو واصلت إدارة ترمب فرض مزيد من الرسوم عليه، سيكون لذلك تأثير كبير على منتجي بطاريات الليثيوم-إيون حول العالم. في المقابل، تتيح بطاريات الصوديوم-إيون طريقة للالتفاف على هذه القيود، إذ تستخدم غالباً في أقطابها الكربون الصلب، وهي مادة شائعة جداً تشبه الفحم.
.: الصين تعزز هيمنتها على الليثيوم بخطط لتقييد تصدير التكنولوجيا
أكثر أماناً وسرعة
كما أن قابلية بطاريات الليثيوم-إيون للاشتعال شكلت دافعاً إضافياً للبحث عن بدائل أكثر أماناً. إذ يمكن تخزين بطاريات الصوديوم دون شحنها، ما يقلّل من خطر اندلاع الحرائق مقارنةً بنظيراتها المصنوعة من الليثيوم، بحسب آندي ليتش، المتخصص في تخزين الطاقة في بلومبرغ إن إي إف.
تقول الشركة إن حجم وحدة مكوّنة من 10 حزم بطاريات “ناترون”، تتسع على رف خوادم معياري، يوازي تقريباً حجم ثلاجة منزلية، فيما تخزّن 250 كيلوواط من الطاقة، وهي كمية تكفي لإمداد أكثر من 100 منزل في كاليفورنيا بالكهرباء. أي أن كثافة طاقتها أقل من بطاريات الليثيوم-إيون.
لكن ما يجعل بطاريات الصوديوم-إيون مناسبة جداً لمراكز البيانات، بحسب الشركة، هو سرعتها الفائقة في تفريغ شحنتها. فبينما قد تستغرق بطارية ليثيوم-إيون ساعة كاملة لتفريغ الكهرباء، تستطيع بطارية “ناترون” أن تفعل ذلك في غضون دقيقتين فقط.
هذه السرعة بالغة الأهمية في حال انقطاع التيار الكهربائي، وهو احتمال بات وارداً أكثر في ظلّ توالي الأحوال الجوية المتطرفة. إذ تمكّن بطاريات “ناترون” المنشآت من الاستمرار في العمل لبضع دقائق إضافية، إلى حين تشغيل المولدات الاحتياطية.
بطاريات بديلة أخرى
رغم أن كلفة بطاريات “ناترون” حالياً تقارب كلفة نظيراتها من الليثيوم-إيون، يتوقع بروكس انخفاض هذه الكلفة إلى النصف عند وصول منشأة نورث كارولاينا إلى كامل طاقتها التشغيلية، لكنه لم يحدد موعداً لذلك حتى الآن.
إلى جانب مراكز البيانات، تسعى” ناترون” لاستخدام بطارياتها في قطاعات أخرى مثل تكرير النفط والغاز والتطبيقات العسكرية، بما في ذلك أنظمة الدفاع ضد المسيّرات والصواريخ، وهي مجالات تتطلب دفعة قوية من الطاقة خلال فترة قصيرة وإعادة شحن سريعة. وقد باشرت الشركة تزويد بعض العملاء في هذه القطاعات بمنتجات على نطاق تجريبي، وتتوقع بدء شحنها على المستوى الصناعي مع نهاية الربع الثاني من هذا العام.
بدأت بطاريات الصوديوم-إيون تشق طريقها نحو سوق السيارات الكهربائية في الصين، حيث يركّز المصنّعون على فئة من المستهلكين لا تمانع بمدى قيادة أقصر مقابل سعر أقل.
تُستخدم هذه التقنية في سيارات من إنتاج شركة” ييواي” (Yiwei) تابعة لمجموعة “جيه إيه سي” (JAC) المدعومة من “فولكس واجن”، وتتوفر بأسعار تبدأ من 7000 دولار، وبمدى يصل إلى نحو 230 كيلومتراً.
كما تستهدف بعض الشركات الصينية المصنّعة لبطاريات الصوديوم-إيون قطاع المعدات الكهربائية المحمولة. وأشار الباحث في تقنيات البطاريات مارسيل فيل إلى أن العلماء اختبروا عناصر مختلفة من الجدول الدوري بحثاً عن حلول بديلة لاعتمادها في البطاريات، كان منها الكالسيوم والبوتاسيوم والمغنيسيوم، “لكن الصوديوم هو النظام الأقرب إلى تحقيق اختراق في السوق”.
.: التحول إلى الصوديوم يهدد عرش الليثيوم في بطاريات السيارات
لكن لا يعني ذلك أن بطاريات الصوديوم-إيون ستصل إلى مستوى الانتشار الواسع الذي حققته بطاريات الليثيوم. لا يرى فمينغلونغ هي، كبير العلماء في مركز الأبحاث التابع لشركة “إيه بي بي” (ABB) في سويسرا التي استثمرت في شركات ناشئة في المجال بطاريات صوديوم-إيون، منها “ناترون”، أن هذه التقنية ستهيمن على السوق.
بل إنه يتصور مستقبلاً تُستخدم فيه بطاريات من طراز “ناترون” في مراكز البيانات وأسواق متخصصة، فيما يستمر استخدام التركيبات الكيميائية ذات كثافة الطاقة الأعلى، مثل فوسفات حديد الليثيوم، في المركبات الكهربائية أو الهواتف الذكية.
يُتوقع أن تستمر تقنيات بطاريات أخرى في انتزاع حصة الليثيوم-إيون في سوق بعض التطبيقات المتخصصة، مثل بطاريات الحديد-الهواء لتخزين الطاقة على المدى الطويل، والبطاريات الحرارية للاستخدام المنزلي. قال مينغلونغ هي: “لا أعتقد أن هناك تركيبة كيميائية واحدة أو تقنية بطاريات تصلح لجميع الاستخدامات”.