بقلم: Oliver Crook
لأنني مراسل لدى تلفزيون بلومبرغ في أوروبا، أمضيت معظم الشهرين الماضيين في التنقل بين لندن وبروكسل وأوسلو ولوكسمبورغ وبرلين وباريس، من أجل قمم ومؤتمرات واجتماعات طارئة، وخلالها التقيت بوزراء خارجية ومالية وتجارة واقتصاد، إضافة إلى عدد من رؤساء الحكومات.
كانوا جميعاً يحاولون استيعاب ما تعنيه عودة الرئيس دونالد ترمب إلى البيت الأبيض، بالنسبة للعالم ولأوروبا، ويسعون لصياغة موقف موحد يصون المصالح الأوروبية دون استفزاز الرئيس الأميركي متقلّب المزاج.
.: الفوضى الأميركية فرصة ينبغي لأوروبا اغتنامها
على مدى الأسابيع التي سبقت إعلان ترمب فرض رسوم جمركية في ما سمّاه “يوم التحرير”، وما تلاه، ومن ثمّ تراجعه عن كثير من تلك الرسوم بعد انهيار الأسواق العالمية، شعرت وكأنني أرى عائلة مكلومة تعيش مراحل الحزن الخمس.
الإنكار: في اليوم التالي للانتخابات الاتحادية في ألمانيا في فبراير، كنت أعدّ تقريراً عن النتائج من أمام مبنى رايخستاغ تحت شمس برلين الساطعة، وقد تجمّع عدد من البافاريين لمتابعة تغطيتي. بعد انتهائي، اقتربت مني سيدة وسألتني إن كنت أميركياً. حين أجبت أنني كذلك، قالت شيئاً من قبيل: “نحن بحاجة إليكم حقاً. نحن نحب الولايات المتحدة. لا نصدق ما يجري”.
لقد حثّتني على نقل مشاعرها الصادقة إلى أبناء بلدي، وخصوصاً من يعملون في البيت الأبيض. أخبرتها بأنني لا أملك نفوذاً يتيح لي التأثير في السياسات، لكنني أتفهم قلقها. بينما كنّا نهمّ بجمع المعدات، قالت بإلحاح: “نحن بحاجة إليكم حقاً… يجب أن تدرك ذلك”.
الغضب: يدرك صانعو السياسات الأوروبيون أن التعبير العلني عن هذا الغضب، مهما بلغ عمقه، لن يخدم مصالحهم. ومع ذلك، اقتربت وزيرة التجارة الهولندية راينيت كليفر من ذلك في السابع من أبريل، حين قالت لي في لوكسمبورغ: “آمل أن يكون السيد ترمب على قدرٍ كافٍ من الذكاء ليدرك مدى ترابط اقتصاداتنا واعتمادنا على بعضنا بعضاً، وأن الرسوم الجمركية تضرنا جميعاً”.
.: ترمب واثق من التوصل إلى اتفاق تجاري مع أوروبا لكن دون عجلة
حتى بعيداً عن عدسات الكاميرا، نادراً ما يعبّر المسؤولون عن غضب صريح، لكنهم لا يستطيعون إخفاء شعورهم بالانزعاج. في 7 أبريل، وردت أنباء عن تعليق محتمل للرسوم الجمركية، فتذمر أحد الوزراء الذين كنت أقابلهم من أن المسؤولين أمضوا ساعات طويلة في مناقشة الموضوع، ويبدو أن كل ذلك العمل بات هباءً.
لكن في وقت لاحق ذلك اليوم، تبيّن أن المعلومات لم تكن دقيقة، ما أعاد بعض الجدوى لتلك الجهود، نظرياً على الأقل. وما كاد يمرّ يومان حتى أعلن ترمب تعليق الرسوم المتبادلة لمدة 90 يوماً.
المساومة: سعى وزراء التجارة الأوروبيون الذين اجتمعوا في لوكسمبورغ في 7 أبريل، ثم وزراء المالية الذين التقوا في وارسو خلال عطلة نهاية الأسبوع التالية، لصياغة موقف موحّد يمكن التوجّه به إلى البيت الأبيض. وما خرجت به من كلّ المقابلات التي أجريتها هو أن الجميع يدرك بأن ترمب يشعر بالغبن، لكن لا أحد يعرف ما الذي يريده بالضبط. ولا يمكن بدء أي مفاوضات ما لم يُطرح “سعر افتتاحي” على الطاولة.
الاكتئاب: الركود الاقتصادي أمر وارد. فالقلق الرئيسي الذي استشفيته من أحاديثي مع القائمين على الاقتصادات الأوروبية هو عجزهم الكامل عن تقدير أو توقّع تداعيات هذه الحرب التجارية على بلدانهم، ناهيك عن التعبير عنها بوضوح. لكن ما يتفق عليه الجميع هو أن الوضع غير جيد، وكثير من الاقتصاديين يتوقعون تباطؤاً اقتصادياً قد يخلّف أضراراً لا تحمد عقباها.
التقبّل: شعرت أن الأوروبيين بلغوا مرحلة التقبّل للمرة الأولى خلال قمة حلف شمال الأطلسي التي عُقدت في بروكسل مطلع أبريل، حين سعى وزير الخارجية الأميركي ماركو روبيو إلى طمأنتهم بأن التحالف ليس مهدداً. كان ذلك بالضبط ما أراد معظمهم سماعه، لكن لم يبدُ لي أنهم صدّقوه تماماً.
بصيص أمل
رغم أن ترمب يضرب بعرض الحائط ثمانين عاماً من العلاقات الدبلوماسية، ويستنزف أعصاب الأوروبيين في طريقه، ما يزال المؤمنون بالشراكة العابرة للأطلسي يتمسكون ببصيص أمل. خذ مثلاً وزير المالية الألماني يورغ كوكيز، فعندما تسمعه يتحدث بالإنجليزية، لا يدهشك أن يكون قد أمضى جزءاً كبيراً من شبابه في كاليفورنيا.
في ظلّ ما يبدو أنه تخلٍّ من جانب ترمب عن الهيكل الأمني والاقتصادي الذي أُرسِي بعد الحرب العالمية الثانية، سألته في وارسو في 11 أبريل إن كان الوقت قد حان للتفكير في مستقبل لا يشمل الولايات المتحدة. فأجاب “كلا، أنا مؤمن تماماً بالشراكة الأطلسية. من الطبيعي أن تدور النقاشات، لكننا بالطبع نأسف بشدة لأن النبرة أصبحت أكثر عدوانية”.
ذكرني ذلك الموقف بأول زيارة رفيعة المستوى لمسؤول في إدارة ترمب إلى أوروبا، حين شارك نائب الرئيس جيه دي فانس في مؤتمر ميونيخ للأمن في فبراير، وسط أجواء مثلجة. وجّه فانس حينها انتقاداً لاذعاً للتيارات السياسية السائدة في أوروبا، وشبّه محاولات كبح الأحزاب اليمينية الصاعدة بالأساليب التسلطية التي مورست في الحقبة السوفيتية.
.: مارك تشامبيون: أنعي لكم التحالف عبر الأطلسي الذي عهدناه
بعد الخطاب، لمستُ من خلال أحاديثي مع عدد من صنّاع السياسات والرؤساء التنفيذيين، بل وحتى أحد رؤساء الحكومات، تجلّيات كامل مراحل الحزن الخمس. ومع اختتام المؤتمر ومحاولة الحاضرين استيعاب ما قاله فانس، علّق كريستوف هويسغ، الاستشاري البارز لدى المستشارة الألمانية السابقة أنغيلا ميركل، الذي ترأس المؤتمر بأن الخطاب أحدث “هزة ارتدادية”. بينما كانت الثلوج تتساقط ببطء فوق ميونيخ، تساءل بقلق: “هل ما تزال هناك أرضية مشتركة؟ هل من قاعدة قيم أطلسية تجمعنا؟”.
دائماً ما يتمنى المراسلون الميدانيون أياماً مشمسة ودافئة، لا تتجمّد فيها الأصابع ولا تبتلّ فيها المعدات. ومع حلول فصل الربيع، لا أفتقد التقارير المصورة التي كنت أقدمها في برد ميونيخ القارس. لكن ما أفتقده هو ذلك التفاؤل الاقتصادي الذي كان يلوح في الأفق، حتى في أشد أيام الشتاء قسوة، قبل أن تصبح الرسوم الجمركية الشغل الشاغل.